ماذا تعرف عن ليلة القدر؟
الشيخ ندا أبو أحمد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
--------------------------------------
تمهيد
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: 1]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: 70،71].
أما بعد...
فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالي- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اصطفاء الله تعالى لليلة القدر
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، إذا تأملت أحوال هذا الخلق؛ رأيت أن هناك حكمة من اصطفاء الله تعالى بعض المخلوقات والشهور والأيام والليالي على بعض، وهذا يدل على ربوبية الله ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار.
ـ فخَلَقَ الله السموات سبعاً، فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقرَّبين من الملائكة، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه، وأسكنها مَن شاء من خلقه.
ـ وخلق الله الجِنان واختار منها جنَّة الفردوس، وفضَّلها على سائر الجنان، وخصَّها بأن جعل عرشه سقفها، وقد جاء في "صحيح البخاري" من حديث أبى هريرة t أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجَنَّة مائة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، كلُّ درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسئلوه الفردوس، فإنه أوسط الجَنَّة وأعلى الجَنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجَنَّة".
ـ وخلق الله الملائكة واصطفى منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتتح صلاته إذا قام من الليل فيقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اُختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلي صراطٍ مستقيم" (أخرجه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-) فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقُرْبِهم من الله.
ـ وخلق الله الخلق واصطفى منهم الأنبياء، ثم من الأنبياء الرسل، ثم اختار من الرسل أولي العزم وهم الخمسة المذكورين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7]، ثم اختار من أولي العزم محمداً -صلى الله عليه وسلم- فهو سيد ولد آدم، ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بن آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشاً، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً -صلى الله عليه وسلم-.
ـ وكذلك اختار الله تعالى لنبيه أصحابه من جملة العالمين، واختار منهم السابقين الأوَّلين، واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.
ـ واختار الله تعالى أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأمم.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيتُ ما لم يُعطَ أحدٌ من الأنبياء: نصرتُ بالرعب، وأعطيتُ مفاتيح الأرض، وسُمِّيتُ أحمد، وجُعِلَ التراب لي طهوراً، وجُعِلَت أمتي خير الأمم".
ـ واختار الله لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها، ووهبها الحلم والعلم ما لم يهبه لأمَّةٍ سواها ففي "مسند الإمام أحمد" وعند البزار من حديث أبي الدرداء مرفوعاً: "إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم: إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أُعْطيهم من حلمي وعلمي".
ـ ومن هذا اختياره -تعالى- البلد الحرام من سائر البلدان، فإنه -تعالى- اختاره لنبيه، وجعله مناسك لعِبادِه، وأوجب عليهم الإتيان إليه من كل فجٍّ عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشِّعين متذلِّلين، كاشفي رءوسهم، متجرِّدين عن لبـاس أهل الدنيا، وجعله حرماً آمناً، لا يُسْفَك فيه دمٌ، ولا يُقْطَع به شجرة، ولا ينفر له صيدٌ، ولا يختلي خلاه –أي: لا يقطع نباته الرطب-، وهذا كلُّه سرُّ إضافته إليه -تعالى-: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته.
ـ وكذلك اصطفى الله تعالى واختار بعض الأيـام والشهور على بعض، فخير الأيـام عند الله يوم النحر: وهو يوم الحج، كما في "السُّنن" وعند الإمام أحمد: "أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر" وقيل: يوم عرفة أفضل منه، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي قـالوا: لأنه يوم الحج الأكبر وصيامه يُكفِّر سنتين، وما من يوم يعتقُ اللهُ فيه الرقابَ أكثر منه في يوم عرفة".
ـ وكذلك فضَّل الله تعالى يوم الجمعة، والعشْر الأيام الأُوَل من ذي الحجة على سائر الأيام فهذا خلق الله وهذا هو اختياره، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص: 68].
ـ ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر شهور العام، وتفضيل العشر الأواخر على سائر الليالي، وتفضيل ليلة القدر على جميع الليالي فهي خير من ألف شهر. (انظر زاد المعاد: 1/ 42 - 65).
وحديثنا عن ليلة القدر سنتناوله في صورة سؤال وجواب
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)} [سورة:القدر].
س1: ويبقى هنا السؤال لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر؟
إن الحديث عن ليلة القدر حديث عن ليلة العظمة والشرف، يقال: فلان له قدر، أي: له منزلة وشرف.
وسميت بذلك لأمور منها:
1ـ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، لأمَّةٍ ذات قدر.
2ـ وقيل: لأنه مَنْ أتى فيها بفعل الطاعات، صار ذا قدر وشرف عند الله -تعالى-.
3ـ وقيل: "ليلة القدر" يعني: ليلة الضيق، قال الخليل بن أحمد مستدلاً بقوله تعالى:
{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: ضيق، وسميت بذلك لأن الأرض تضيق بها الملائكة النازلة إليها في تلك الليلة، ونزول الملائكة كله خير وبركة، وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود عن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى". (رواه أحمد عن قتادة).
4ـ وقيل: المراد بها التعظيم، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، [الزمر: 67].
5ـ وقيل: "ليلة القدر" أي: ليلة التقدير، وسميت بذلك لما روي عن ابن عباس –رضي الله عنهما– وغيره: "أنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ {3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4].
ملاحظة:
والمراد من التقدير: إظهاره -تعالى- ذلك للملائكة -عليهم السلام- المأمورين بالحوادث الكونية، والمعينين بشئون الخلق، وإلا فتقديره تعالى بجميع الأشياء أزلي قبل خلق السموات والأرض.
تنبيه:
ليس هناك ما يمنع أن يكون معنى ليلة القدر متضمناً لكل هذه المعاني، فهي الليلة ذات الشرف والقدر لِما حدث فيها من تنزُّل القرآن الكريم، ولِما يتنزَّل فيها ملائكة الله الأكرمين، ولِما يظهر الله فيها لملائكته ما قدَّره في شأن العباد أجمعين لعامهم الجديد... والله أعلم.
س2: مـا هو فضل ليلة القدر؟
فضل ليلة القدر كثير وعظيم ففيها العطايا والمنح ومنها:-
1- أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم في هذه الليلة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
فالصحيح المعتمد كما قاله ابن حجر -رحمه الله- في "شرح البخاري" وكما صحَّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن القرآن الكريم أُنْزِل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلي بيت العزة في السماء الدنيا".
وقيل: هي الليلة التي بدأ نزول القرآن فيها على قلب سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: هي الليلة التي أمر الله سبحانه القلم فيها أن يكتب القرآن في اللوح المحفوظ
فعلى أية حال: فهي الليلة التي حظيت بساعة الفصل من عالم الغيب المكنون إلي عالم الشهادة الموجود.
فهي الليلة التي حظيت بنزول القرآن الكريم فيها، وهو حدث عظيم لم تشهد الأرض ولا السماء مثله في عظمته.
وكأن هذه الليلة لها قدر عند الله منذ الأزل، وقد ازدادت قدراً على قدر بنزول القرآن فيها، وحظيت بهذا الشرف فوق شرفها الأول، وأصبحت سيدة الليالي.
وهذا يأخذ بأيدينا إلى الفضيلة الثانية وهي:
2- أن الله -تعالى- العظيم؛ عظَّم شأنها وذكرها بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أن دراية علوها ومنزلتها خارج عن دائرة دراية الخلق، فلا يعلم ذلك إلا علام الغيوب جل جلاله.
3- إن العبادة والعمل الصالح فيها: من الصيام والقيام والدعاء وقراءة القرآن خيراً من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" (30/ 167): "عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر" وهذا الذي صوَّبه ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره.
4- ليلة القدر لا يخرج الشيطان معها
ودليل ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر".
وفى رواية عند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".
وفى رواية ابن حبان عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها".
ولذلك قال رب العالمين فيها: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} [القدر: 5].
فهي ليله كلها خير وسلام، سالمة من الشيطان وأذاه
قال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-:
"في تلك الليلة تُصفَّد مردة الجن، وتُغلُّ عفريت الجن".
وقال مجاهد:
"هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءً ولا يحدث فيها أذىً".
وقال أيضاً:
"لا يُرسَل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء".
ويروى عن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال:
"لا يستطيع الشيطان أن يصيب فيها أحداً، أو داء، أو ضرب فساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر".
5- أن الملائكة والروح تَنَزَّل في هذه الليلة:
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، والمقصود بالروح: هو جبريل عليه السلام.
وأخرج ابن خزيمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى، والملائكة تنزل بالرحمات والبركات والسكينة، وقيل: تتنزل بكل أمر قضاه الله وقدره لهذه السنة".
6- أن الأمن والسلام يحل في هذه الليلة على أهل الإيمان.
قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} [القدر: 5].
واختلفوا في تفسير هذه الآية على أقوال:-
فقيل: سلام من الشر كله، فلا يكون فيها إلا السلامة، وقيل: تنزل الملائكة في هذه الليلة تسلم على أهل الإيمان، وقيل: لا يستطيع الشيطان أن يمسَّ أحداً فيها بسوء، وقيل غير ذلك.
7- أنهـا ليلـة مبــاركة
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: يعني ليلة القدر.
8- أن مَن قامها إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة t أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه".
9- يتم فيها تقدير مقادير السنة، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]
قال ابن رجب –رحمه الله– كما في "لطائف المعارف" (1/231):
روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
أنها ليلة النصف من شعبان، والجمهور: على أنها ليلة القدر، وهو الصحيح. اهـ
وأخيراً نقول لكل مَن فرَّط وضيَّع:
اِسْتَدْرِك ما فاتك في ليلة القدر، فالعمل فيها خير من ألف شهر سواها، فمَن حُرِمَ خيرها فهو المحروم، كما أخبر الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة t أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افْتَرَضَ الله عليكم صيامه، يُفتَّح فيه أبواب الجَنَّة ويُغَلَّق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حًرِم"، وأخرج ابن ماجه عن أنس -رضي الله عنه- قال: "دخل رمضان فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخير كله، ولا يُحْرَم خيرها إلا محروم". (صحيح الجامع: 2247).
إخواني... ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا - رحمكم الله - في طلبها، فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة، ففي الغفلة العطب.
تولَّـى العمر في سهو وفي لهو وفي خمر
فيـا ضيعة مـا أنفقت في الأيام من عمري
وما لي في الذي ضيَّعت من عمري من عُذر
فما أغفلنا عن واجبات الحمـد والشـكـر
أمـا قـد خصَّنـا الله بشهـر أيَّمـا شهر
بشهر أنزل الرحمـن فيـه أشرف الذكـر
وهـل يشبهه شـهر وفيـه ليـلة القـدر
فكم مـن خـبر صحَّ بما فيهـا من خير
رويـنـا عن ثقـات أنها تُطْلَب في الوتر
فطـوبـى لامـرئ يطلبها في هذه العشر
ففيها تَنَزَّل الأمـلاك بالأنــوار والبـرِّ
وقد قـال: سلام هي حتـى مطلع الفجر
ألا فادَّخِرهـا إنها مـن أنفس الذخر
فكم من مُعتَقٍ فيها من النـار ولا يدري
وقـفـــــــــــــة:
وهذه العطايا والمنح الربانية والهبات الإلهية تجعلنا نتحرَّى ونلتمس ليلة القدر امتثالاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت في "صحيحي البخاري ومسلم" من حديث عائشة –رضي الله عنها-: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان".
وكذلك عملاً بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187].
قيل في تفسير قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}، يعني: الولد (روي هذا عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري).
وقيل: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}، تعني: ليلة القدر (روي هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-).
والتحقيق أن يقال:
لما خفَّف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصيام إلي طلوع الفجر، وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر حتى لا يخطر بقلبه غير ذلك، أرشدهم -عزوجل- إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة، بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر، ويبتغوا بها الولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويبتغوا بها ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول الرخصة، فإن الله يحب أن يُأْخَذَ بِرُخَصِهِ كما يكره أن تُؤْتَى معصيته.
ولكن يبقى سؤال:
ما علاقة ابتغاء هذه الليلة بإباحة مباشرة الزوجات؟
والإجابة على ذلك:
أن هذا فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر، فكأنه سبحانه يقول: اقضوا وطركم من نسائكم ليلة الصيام، ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب لكم من هذه الليلة وما فيها من الفضل العظيم.
س3: هل هذه الليلة خاصة بالأمة المحمدية أم كانت في الأمم السابقة؟
ذهب البعض إلى: أن هذه الليلة خاصة بالأمة المحمدية مستدلين بالحديث الذي أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" والبيهقي في "الشعب" عن قتادة: "أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرى أعمار الناس قبله -أو ما شاء الله من ذلك- فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا في العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر". (الدر المنثور: 6/ 629).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن مجاهد: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر" (المصدر السابق).
وصرَّح بهذا الرأي الهيثمي، وابن حبيب من المالكية، ونقلها عن الجمهور وحكاه "صاحب العدة" من الشافعية ورجَّحه، بل حكى الخطابي عليه الإجماع واستدلوا كذلك بما رواه الديلمي عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها مَن كان قبلهم".
لكن قد يعترض على هذا الرأي بحديث أبى ذر -رضي الله عنه- والذي رواه النسائي والإمام أحمد وفيه: "قلت يا رسول الله أتكون مع الأنبياء (أي ليلة القدر) ما كانوا فإذا قُبِضُوا رفعت؟ أم هي إلى يوم القيامة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: بل هي إلى يوم القيامة".
والذي يترجَّح جمعاً بين الأدلة:
أن ليلة القدر موجودة منذ الأزل، وهى ليلة لها منزلتها وشرفها من بين سائر الليالي، منذ أن خلق الله الأيام والليالي، ولكن تخصيص العمل فيها بتلك الأفضلية وأن العمل فيها من الطاعات خير من ألف شهر هو خاص بالأمة المحمدية؛ وذلك عوضاً عن قصر أعمار تلك الأمة، فمعنى بقائها مع الأنبياء السابقين هو بقاء شرفها وفضلها في ذاتها، وليس في مضاعفة الثواب، والعمل بألف شهر إذ أن ذلك خاص بالأمة المحمدية، أو أنها كانت موجودة في الأزل، لكن الإخبار عنها والإعلام بها لم يتأت للأنبياء السابقين، وإنما خص الله به نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته دون غيرها.
إشكال والرد عليه:
زعم البعض إلى: أنها رُفِعَت وأنها غير موجودة، وهذا كلام بعيد، وقد قال النووي -رحمه الله- في "شرحه لمسلم" (4/32): أجمع مَن يُعْتَدُّ به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر، وقال القاضي: وشذَّ قوم فقالوا: "رُفِعَت"؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "حين تلاحا الرجلان" (فرفعت) وهذا غلط؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وعسى أن تكون خيراً لكم فالتمسوها في السبع والتسع" (كما جاء عند البخاري).
وفى هذا الحديث التصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. اهـ